الأربعاء، 5 نوفمبر 2008

اوهام حب

فى إحدى ليالى الصيف الهادئة جلست على شاطئ البحر كعادتى منذ استلامى لعملى فى هذه البقعة الساحرة من أرض مصر .. مرسى مطروح , و أخذت أروى له ذكرياتى كالمعتاد لنتشارك فيها سويا , و اليوم سأبدأ فى روايتى لوهم كبير عشته فى بداية فترة المراهقة , و هى تبدأ منذ كنت فى..
معذرة نسيت أن أقدم لكم نفسى ..
اسمى هو محمد و أعمل ضابطا فى القوات المسلحة المصرية برتبة نقيب ..
و الآن لنبدأ القصة..
كنت فى الصف الثانى الإعدادى عندما انتقل والدى للعمل فى مدينة القاهرة و انتقلنا جميعا معه للإقامة بها فى أحد أحيائها الراقية , و لأننا أناس طيبون يحبون الناس و يحسنون معاشرتهم لم يكد يمضى على إقامتنا شهر واحد حتى أصبحت علاقاتنا فى أطيب صورة مع جميع الجيران و خاصة الجيران الذين يقطنون فى مواجهتنا , و الذين سيكون لهم دور بارز فى حكايتى هذه مع ابنتهم الجميلة نهى..
كانت نهى زميلتى بنفس الفصل الدراسى , و نظرا لقرب المدرسة من المنزل كانت تصحبنى يوميا فى الذهاب و الإياب..
و ارتبط قلبانا منذ اللحظة الأولى فى براءة و طهر الصبية الصغار , و ظللنا على هذا الحال طوال الفترة المتبقية من المرحلة الإعدادية و التى انتهت بنجاحنا بتفوق و كنت كعادتى الأول ثم انتقلنا إلى المرحلة الثانوية و تكرر ما حدث فى المرحلة السابقة مع وجود اختلاف هذه المرة و هو أننا قد زاد التصاقنا ببعضنا , و بدأ الحب يداعب قلبانا الصغيران و صارحتها بحبى وكالمعتاد كنت الأول..
الأول فى حبها ..
فلقد أسرت قلبى بجمالها الأخاذ و أدبها الشديد و ثقافتها الواسعة , و غيرها من الصفات التى لا تكفى أوراق الدنيا و أقلامها لذكرها , و تعاهدنا على أن نبنى مستقبلنا و ألا يكون للحب تأثير سلبى علينا بل ايجابى يدفعنا إلى الأمام و بالفعل حدث ما كنا نريده و نجحنا فى الثانوية العامة و كنت أيضا الأول ..
و فرحنا كثيرا و تعاهدنا على أن نكون سويا حتى أخر العمر ..
توقفت قليلا لأستعيد الذكريات وألتقط أنفاسى , و نظرت إلى البحر نظرة طويلة إلا انه أبى أن أتوقف و لو لحظة واحدة و أخذت أمواجه تعلو وشعرت كأنه يحثنى على الكلام ..
بعد أن خبت نشوة فرحتنا و بعد تعاهدنا على أن نكون سويا بدأنا ننظر إلى المستقبل مرة أخرى بنظرة أخرى , وكان هذا هو أول خلاف فى سنوات حبنا ..
فلقد اختارت نهى دراسة الطب بينما اخترت دراسة الهندسة و بدلا من أن ألتحق بكلية هندسة مدنية فضلت الالتحاق بإحدى الكليات العسكرية التى تدرس أيضا الهندسة , و عبثا حاولنا أن نوفق فى دراسة واحدة فلقد أصر كل منا على اختياره ..
و لكننى أحسست من ناحيتها تغيرا غير مريح ..
وتم لنا ما أردنا و التحقت هى بكلية الطب و التحقت بالكلية التى أريدها و كعادة الكليات العسكرية توجد فترة انتقالية للطالب من الحياة المدنية إلى الحياة العسكرية , و فى هذه الفترة يأتى الأهل لزيارة أبنائهم و لكنها لم تأت فى أول زيارة وكتمت حزنى واختلقت لها الحجج بداخلى لعلها تأتى الزيارة القادمة , و لكنها لم تأتى و جاء أهلها لتهنئتى , و عندما سألت عنها تعللوا بدروس كليتها الصعبة ..
لم يقتنع قلبى بهذه الحجة الواهية فأى شئ يمنع المحب عن حبيبه أى قلب يطيق الفراق..
و تهرب الجميع من إجابتى و صبرت حتى انتهت تلك الفترة الطويلة و خرجت فى إجازة قصيرة , و كان أول ما فعلته هو الذهاب للسؤال عنها , و لكنها تهربت منى و ادعت والدتها بأنها غير موجودة ..
كتمت حزنى ولوعتى فى صدرى مرة أخرى و ذهبت فى بعض الزيارات العائلية و عندما عدت سألت عنها مرة أخرى و مرات و لكن كل مرة أقابل بالحجج الواهية منهم ومن أهلى , و حزمت فى نفسى أمرا ما ..
ألا و هو أن أذهب لرؤيتها فى كليتها ..
و بالفعل ذهبت و أخذت أبحث عنها حتى التقيت بها مصادفة فتوقفت أمامى و أخذت أنظر إليها بشوق و لهفة و حب أما هى فكانت تنظر إلى بارتباك و خوف و كأن شئ يدفعها لتركى و حرت فى تفسير ذلك و عندما هممت بسؤالها ..
فوجئت بصوت يصيح باسمها فى غضب قائلا هل هناك ما يضايقك..؟
لم أدع لها الفرصة لتجيب و التفت إليه فى حده متسائلا من أنت ..؟
 و ماذا تريد..؟
و جاءنى جوابه فى نظرة ساخرة باردة تفيض بالتحدى و الشماتة فسارعت بالالتفات إليها متسائلا من هذا الشخص ..؟ فلم تجب ..
ماذا دهاك ..؟
 لماذا لا تردين على ..؟
 لماذا تقفين هكذا مثل الصنم الأبكم الذى لا يرى و لا يسمع و لا يتكلم ..
من هذا الشخص , و بأى حق يخاطبنى هكذا ..؟
و بدلا من أن تجيبنى هى أجاب ذلك الأحمق قائلا إذا لم تنصرف و تتركها و شأنها سأستدعى لك الحرس الجامعى , و ضم قبضته أمام وجهه أو أتخذ معك إجراء أخر و..
بتر كلامه عندما وجدنى أنظر إليه بسخرية و أمسك بيده , وأدفعه بعيدا عنى ثم انصرفت ..
 و أثناء سيرى تقابلت مع بعض الأصدقاء القدامى , وتوقفت قليل معهم و عندما لاحظوا ما بى سألونى عما بى و لكنى آثرت الصمت فكرروا سؤالهم مرة أخرى , فرويت لهم ما حدث ..
فإذا بهم يخبروننى بأن هذا الشخص هو خطيبها , و أنها ارتبطت معه بقصة عنيفة بمجرد دخولها الجامعة و تمت خطبتهما فى خلال الفترة التى تغيبتها و ..
أراد أن يكمل باقى روايته لكن قاطعته و أنا فى قمة الذهول ماذا قصة حب و خطبة ..؟
 أى قول أحمق هذا ..؟
و أردت أن أكمل و لكن الكلمات اختنقت فى حلقى و تركتهم و انصرفت و أنا فى داخلى ألعن النساء و ألعن كل من يحب و يعشق..
و عدت إلى كليتى و بداخلى تصميم شديد على نسيان من حطمت قلبى و مواصلة التفوق و عزمت على ألا أسمح لقلبى بخوض تلك التجربة مرة أخرى ..
مرت سنوات دراستى سريعا بتفوق و لم أعرف عن نهى سوى أنها تزوجت فى أثناء دراستها من ذلك الشخص و فضلت الابتعاد عن القاهرة و ذهبت إلى مرسى مطروح , و لم أعد أسمع عنها أيه أخبار مطلقا..
حتى أخبرنى أخى الأصغر ببعض الأشياء التى حدثت لها بأنها قد تدهورت فى دراستها خاصة بعد إنجابها لطفلها الأول كما أن علاقتها بزوجها قد ساءت و انتهت بالانفصال و أنها عادت لتسأل عنى ..
 لكن هيهات فقد مات قلبى و دفن على يديها و لم يعد يشعر بالحب أو هكذا خيل إلى حتى أشهر قليلة مضت..
عندما حدثت تلك الصدمة التى هزت وجدانى..
لست أنا فقط بل كل المصريين فجيعة فجعنا بها ..
فى جيشنا ..
فى بلادنا..
و فى أنفسنا..
فلقد حدثت النكسة و احتل اليهود سيناء, و أخذنا نلملم جراحنا الغائرة ..
عندها أدركت حقيقة مكنوناتى , و أصبح همى الأول , و عشقى الوحيد هو مصر..
مصر التى أعشقها دون سواها من البشر , و هنا أحسست أن قلبى بعث إلى الحياة من جديد ..
عندها أدركت أن كل ما سبق هو مجرد أوهام , و انتقلت وحدتى من مرسى مطروح إلى الإسماعيلية فى مرحلة إعادة البناء للجميع ..
بلادنا..
جيشنا..
و حتى أنفسنا..
و تملكنى إحساس جديد هو مزيج من التصميم على العمل و بذل الجهد و المرارة لرؤيتى لعدونا يوميا على مرمى البصر لا يفصل بيننا سوى القناة و نحن عاجزون عن فعل أى شئ له..
سنة كاملة من المرارة و العجز و أنا أعمل و أبذل الجهد الجهيد ..
حتى تم إستدعائى للعمل مع إحدى الوحدات الخاصة لخبرتى فى مجال فتح ثغرات الألغام ..
يومها شعرت بالنشوة و الفرح و الحب ..
و نجحنا نجاحا باهرا و توالت الانتصارات حتى حانت اللحظة التى انتظرناها جميعا ..
فى أعقاب ست سنوات كاملة من المرارة التى يشوبها بعض الحلاوة من الانتصارات الصغيرة فى عملياتنا التى كنا نقوم بها ..
و كان النصر المبين و استعدنا كرامتنا و أرضنا و استعدت معهما قلبى و حبى ..
و لقد جئتكم اليوم فى نفس المكان الذى اعتدت أن أروى للبحر فيه لكى أقص عليكم تلك القصة و أحملكم مسئولية تقديم النصح لكل من سيأتى بعدى و يقف فى هذا المكان و يروى للبحر و لكم..
لا تقع فى وهم الحب المبكر فالحب الأول ليس الحب الأخير و انك حتما ستجد من تحبه و تضحى من أجله فإن القلب لينبض متى وجد القلب المخلص الدافئ العامر بالحب ليشاركه النبض..
أشعر أننى قد أثقلت عليكم , و لكن معذرة فقد كان يجب أن ألقى عن عاتقى هذا العبء الثقيل ..
قبل أن أذهب إلى حيث انتمى الآن أرجو ألا تنسوا ..
محمد..
وداعا يا أصدقائى ..
وداعا يا بحر..
ارتفع البحر و أرسل بموجة كبيرة إلى المكان الذى يقف فيه محمد ليبلل قدميه كعادته ليودعه للمرة الأخيرة, و لكن باءت محاولته بالفشل ..
فلقد انصرف محمد إلى حيث ينتمى الشهداء.

                                              تمت بحمد الله